الجمعة، 3 أبريل 2015

تحليل قصيدة حداثية


المستوى : السنة الثانية من سلك البكالوريا-آداب
======= تحليل النموذج الشعري الأول من مجزوءة تكسير البنية  ======================
قصيدة : تموز جيكور : لبدر شاكر السياب
 [...]
تنتظم هذه القصيدة دلاليا وفق لحضات ثلات، نسجت وفق مقاطع مرقمة، وإذا تأملنا مطلع كل مقطع منها، فستجد أن هذا المقطع يستوعب ثقلا دلاليا لما تموج به القصيدة من معاني ، من هنا يمكن القول إن مطلع كل لحظة من هذه اللحظات يفضح أكبر قدر من سرية النص.
1-     ناب الخنزير يشق يدي : الاستسلام لضرورة الآخر(الخنزير)
2-     جيكور ستولد جيكور ترقب الولادة.
3-     هيهات أتولد جيكور؟ : استبعاد الولادة والعودة إلى الاسلام.
ويبدوة جليا ما بين هذه المقاطع من توتر وقلق ، دفع الشاعر إلى قراءة وضعيته الأليمة ووضعية المكان الذي نشأ وترعرع فيه بعيون الأسطورة – اسطورة تموز- لذلك نعيد طرح السؤال الجوهري في إطار ما تمدنا به الأسطورة من زخم دلالي حول العلاقة الغرامية بين تموز وعشتار. من الذي يقابل تموز في القصيدة ، وملاهي معشوقته؟ وإذا كانت الأسطورة تحكي عن الموت الذي يعقبه الانبعات فهل سيبعث الخصب وتخضر مراعي جيكور ومروجها؟؟ .
            الحقيقة أن هذه القصيدة تبني دلالاتها وفق مقدمتين ونتيجة مناقضة إذ يلتحف الشاعر بقناع تموز مبرزا مالحقه من ألم المرض العضال الذي لا يفارقه بل يؤجج لظاه ليسري في كل أحشاء جسمه. وبهذا تكتمل لدينا الصورة التي أراد شاعرنا أن يسيجها في الأسطورة. فتموز (أدونيس) إذن هو الشاعر أما عشتار الحبيبة فما هي إلا التجلي الدائم والحاضر لقرية الشاعر جيكور. من هنا يغدو الكائن المتوحش الذي يفرق بين الثنائي المنسجم بالحب والتفاني. هو الخنزير (المرض).
            ففي المقطع الأول إذن ينسج الشاعر تجربته مع جيكور بخيوط أسطورة تموز كاشفا عن بعض الخصائص الدقيقة التي تميزهما عن تموز وعشتار. إذ نعرف أن جسد تموز القتيل أضحى شقائق نعمان وقمح من هنا جاءت رمزية هذه الأسطورة للخصب والانبعاث وتجدد البعث في فصل خاص هو فصل الربيع. فماذا عن جسد الشاعر؟ إن جسد الشاعر لم يغد شقائقا أو قمحا ولكن ملحا . فهل الملح ترمز إلى الخصب؟ قطعا لا لأن الأرض المالحة لا تصلح للحرث والزراعة من هنا كانت «الملح». كناية عن الجفاف – وعن الأرض الجرداء- فلمادا لم تكتمل صورة البعث إدن كما اكتملت في الأسطورة؟.
            السبب في ذلك يرجع إلى ترقب الشاعر للموت« ترف أتواب= الأكفان». ترف حيالي الأعشاب الأعشاب الملتفة حول قبر الشاعر. من نعل يخفق – نعل مشيعي جثمانه . وبعد هذه النبرة المسكونة بالاستسلام الذي تفوح منه رائحة الموت يستعيض الشاعر بالاستسلام نبرة جديدة مفعمة بالحلم والترقب والتمسك بالحياة ( لو أسقى، لو أنهص) لكن سرعان ما يتحول هذا البصيص من الأمل المتأجج إلى عتمة وموت .
            أما المقطع الثاني ففيه تتجلى لنا وضعية جيكور- الحبيبة في مشهد شبيه بالحلم المنتظر عندما تخضر البيادر وتورق أزهارها من تضحية الشاعر ومن دمه من جسده المسجى في ليل الطين الممدود المفرغ من كل معاني الحياة إلا من الدود الذي ينخر عظامه.
            وفي الأخير يأتي المقطع الثالث بنبرة اعتراف باستحالة الولادة بعد موت الحبيب (الشاعر) وهذا ما يفضي به إلى الاستسلام (هيهات أتولد جيكور...) من هنا نلمح بعض التغيير في الأسطورة . فإدا كانت عشتار وتموز رمزين للبعث والخصب وإن كان ذلك على حساب موت العاشق . فإننا هنا ندرك أن موت الشاعر رهين بموت جيكور وانبعاتها رهين بشفائه. ولما كان الشفاء مستحيلا وغدا معه الحلم (الغيمة) رملا منتورا . فلا حياة إذن ولا خصب عندما ينتصر الموت.
والمتأمل في هذه القصيدة يلفي أن هناك مجموعة من الثنائيات الضدية التي تؤثت دلالاتها مثل الموت " الحياة/ الذات " المكان الظلمة " الضياء/ الخصب" الجفاف. وعلى الرغم من تعددها فإن ما يوحد بينها هو دلالة الانهزام لذات شاعرة تعاين خرابها مكتفية بالأماني التي لا تأتي أمام المصير المحتوم . وإذا حاولنا أن نسيج كلمات القصيدة في معجم خاص، فلا شك أن الخصب والجفاف هو المفتاح الكفيل بإقحام القارئ داخل هذا النفس الدرامي المحتضر الذي ينتظر حتفه. وتؤثث المعجم الأول كلمات من قبيل [ أحيا،أعشاب، أسقى... ] أما المعجم الثاني فيحتضن كل المفردات الدالة على الأرض الجرداء[ ملح، كومة أعواد، رمل] ولا شك أن التناقض هو ما ينسج بين الحقلين مادام المرض هو المانع الذي يرفض جمعهما معا فيلقي بالشاعر إلى الهلاك وجيكور إلى الخراب.
            ولعلنا نعاين بالملموس مدى خروج هذه القصيدة عن تقاليد المعجم التقليدي والرومانسي معا، لأن أولى مؤشرات تكسير بنية القصيدة في هذا المستوى هو استعمال ألفاظ مألوفة لكنها ممتلئة بطاقات إيحائية جد مكثفة تحول دون إمكانية فهم المحتوى الدلالي اعتماداعلى المباشرة من هنا أصبح الإيحاء والترميز شعارا لعلاقة الدوال بمدلولاتها. وتطرد هذه الخاصية لتلقي بظلالها على مستويات أخرى في القصيدة إذ نجد الصور الشعرية فيها حبلى بدلالات عميقة تقتضي قارئا خاصا متشعب المعارف مدركا للتاريخ بأساطيره ومأثوراته الشعبية في كل الثقافات الإنسانية. ولعل أول ما نشير إليه بهذا الخصوص .حضور أسطورة تموز البابلية باعتبارها قناعا يخفي وراءه وجه الشاعر ووجه قريته جيكور من هنا تخترق قراءتنا لسيرة الشاعر الدرامية قراءة أخرى للأسطورة بوصفهما معا وجهان لجدلية واحدة ، جدلية الموت والانبعاث .كما أن لجوء الشاعرإلى الأسطورة هنا يفسر لنا رغبة الشاعر في جعلنا نطل على وضعيته المأسوية في مرآتها وكأنه يدعونا إلى اختزال المسافة بيت الحقيقة والخرافة، مؤكدا أن لا وجود لهذا التمييز ما دامت وقائعنا أحيانا تشبه الأسطورة بفداحتها وهول آثارها.
            واستعمال الشاعر لهذا النمط الجديد لم يمنعه من استثمار صور تقليدية معهودة كالتشبيه " نعل يخفق كالبرق"كاشفا عن وطأة الموت وقوته، كما تحضر الاستعارة بشكل مهيمن يتخلل كل جسد القصيدة كما هو الحال في الأمثلة التالية : « النحل يوسوس أسراري» ،« دمائي تظلم»« حقد الخنزير» إذ كانت هذه الاستعارات منفدا يفضح دلالات الانهزام والاستسلام التي حاول الشاعر تسييجها بالأماني والأحلام.
            وكما أشرنا سابقا فإن مجمل هده الصور المستعملة تؤدي وظيفة تعبيرية كاشفة عن هموم الذات المندغمة والذائبة مع المكان «جيكور» فكان مشهد هذه الذات هو الوعي بأن الأسطورة قد اتخدت مكانتها المكيدة في سياق الواقعي . فليس في وسع القصيدة أو الشاعر أن يغيير واقعه بالحلم لأن ذلك بالنسبة له بمثابة الوقوع تحت سلطة القدر.
            وإذا انتقلنا إلى المستوى الأسلوبي والتركيبي ، فإن أول ما يطالعنا في هذه القصيدة هو دلك التوزيع المنتظم للأفعال الذي يتماشى مع دلالات النص. ففي المقطع الأول تهيمن أفعال سكونية آنية مستلهمة معنى الانهزام أمام الموت مثل « يغوص ، يتدفق، يخفق يرف ينساب» ومعنى ذلك أن الذات تكون ضحية مفرغة من التحدي والتصدي للموت المحتوم أما المقطع الثاني ينضح بأفعال مستقبلية مكثفة بدلالات الترقب والانتظار مثل: " ستولد، سيورق، سيفيض، سيضحك" وتتناقض هذه الأخيرة مع الأفعال المستعملة في المقطع الأخير الدالة على الاستحالة والقلق والحيرة «أتولد ، أينبتق، أيسقسق. .. » وبهذا نقول أن هذه الأفعال تساير تلك التحولات والاضطربات التي أشرت عليها القصيدة.
            ونسجل في هذا المستوى أيضا تلك الطريقة التي يشتغل بها الشاعر على محوري اللغة .الاستبدالي والتركيبي. ولعل ما يميز هذه الطريقة هي محاولة نسج علاقات منطقية بين ألفاظ متنافرة دلاليا مثل: «أعشاب من نعل يخفق كالبرق،  لساني كومة أعواد» ولعل هذه العلاقات اللغوية الجديدة هي ما ساهم في جعل انزياحات الأسلوب محور الغموض الدلالي في القصيدة .
            أما على صعيد موسيقية القصيدة فلا شك أن القارئ يستطيع استكاه نغمة متوترة تتردد بين ثنايا هذه القصيدة . ولم يكن مبعث هذه الموسيقية مما ألفناه من وحدة القافية والروي والوزن. بل من جوانب أخرى ينبع منها صوت الشاعر الجريح المحتضر الذي يئن ويحن إلى معانقة مسقط راسه قبل أن تتصاعد زفرات روحه المحتضرة . فعلى المستوى الخارجي نسجل في البداية أن القصيدة تسير وفق النسق الايقاعي لبحر المتدارك أو ما جرى على تسميته بالخبب، حيث استبدال الشاعر تفعيله      « فاعلن» يتفعيلة محاصرة بالزحافات المتعددة «فاعل» التي يقتضي فيها القصر بحدف ساكن السبب الخفيف وتسكين ما قبله وتارة تأتي بالخبن بعد حذف ثانيها الساكن /"فعلن".
            وعلى الرغم من كون القصيدة تجري على وزن من الأوزان الخليلية ، فإن تجليات تكيسير البنية العروضية تكاد تلقي بظلالها على جميع مكونات الايقاع .إذ عمد الشاعر إلى توزيع تفعيلية «فعلن» بشكل متفاوت يتماشى والدفقة الشعورية المتأججة في دواخله لذلك جاءت أسطر القصيدة متفاوتة الطول من جهة،ومعتمدة على تتميم معاني النص وبناء دلالاته بشكل متدرج بين الأسطر الشعرية.
            ولم يقتصر هذا التكسير على مستوى الأوزان بل تجاوز ذلك لينسحب على مستوى القافية والروي ، إذ تأتي الأولى متواترة في أغلب الأبيات اللهم من بعض الاستثناءات "الالق – تنطبق"غير أنها تتردد بين المقيد « حلوة – ظلمة » والمطلقة « برق – دنيا ». وهي تحاكي بذلك انقباض نفس الشاعر وإطلاقها مصورة بذلك ألم الاحتضار والموت المتدرج.
            كما ساهم الروي هو الآخر في الكشف عن معاني التوتر والاضطراب مما جعله يتردد بين حروف عدة (الدال، الحاء، الباء، القاف، الميم...) من هدا المنطلق يمكن القول أن الشاعر تتماشى نفسيته الراغبة في التحرر من ربقة الموت ومن سجن المرض وعذاباته .مع تلك القيود التي تكبل لسانه وتمنع صوته من الانطلاق في الهواء محملا بآهات دمه . دون أن ننسى ما ساهم فيه الإيقاع الداخلي بتكراراته وتوازياته من خلق منابع جديدة تنساب موسقية وإيقاعا.
 [...]
هكذا نصل في الأخير إلى القول إن قصيدة تموز جيكور لم تكن رثاء ذاتيا بقدر ما هي تصوير لمشهد درامي وجودي لصورة الذات أمام الموت ، ولم تكن هذه الذات مفردا بقدر ما كانت ذائبة مع الجماعة ومع المكان «جيكور» وعلى الرغم من الصيغة الأسطورية التي نسجت بها أسطر القصيدة .فقد كانت صورة الشاعر واضحة أكثر من وضوحها في المرآة.
            فإدا كانت المرآة تكشف السطح والملامح فإن القصيدة تفضح ما يموج به خيال الشاعر في أعماق روحه الجريحة عندما اختار أن يجعل من الكلمات أداة لتذويب أكداس آلامه مع حبر القصيدة. من هنا نجد قدرة فائقة في تكسير بنية الشعر التقليدية خصوصا عندما اختار الشاعر تفتيت نمطية الشطرين بنظام السطر والتنويع في القوافي والأرواء وتكثيف موضوع الموت كإشكالية وجودية. فلا غرو إذن أن يكون السياب رائدا لهذا النمط الشعري الجديد .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق